بسم الله الرحمن الرحيم سورة الأخلاص العظيمة تضمنت كل ما يجب إثباته لله من صفات الإثبات وهى صفات الكمال التي لا يلحقها نقص ، وتضمنت كل ما يجب نفيه عن الله من صفات التنزيه وهى نفي النقائص وهى نفي الأصل والفرع ونفي المثيل ونفي الشريك ، وبيان ذلك علي النحو التالي :
* الصَّمَدَ: إثبات جميع صفات الكمال مع كون الخلائق تصمد " تقصد " إليه في حوائجها ؛ ومن ثبت له الكمال التام انتفى عنه النقائص المضادة له ، وأيضاً ينتفي الشريك والمثيل ، . وإلا كان نقصاً فعلى سبيل المثال : لو وُجد المثيل والنظير في العزة مثلاً لأنتفي الكمال في عزة كل منهما ؛ إذ لا يستطيع أن يغلب أحدهما الآخر ، وهكذا في باقي الصفات ، وأيضاً : انتفاء الولد ؛ إذ الصَّمَدَ لا يخرج منه شيء ، وليس له صاحبه ( نظير ) وبالتالي لم يلد ، وبالأَوْلِى وبالأَحْرَىِ لم يولد (لأن الولد من جنس والده) فانتفى الأصل (الوالد) والفرع (الولد) والنظير .
* أحد: ليس كمثله شيء في صفات الكمال الثابتة فلا مثيل أو نظير أو شريك. * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ : انتفاء الأصل والفرع
وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ : انتفاء النظير والمثيل
** وصفات الكمال تثبت نصاً بالصَّمَدَ ، ولزوماً ( باَلأحَدِ ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) كما أن صفات التنزيه تثبت نصاً بالأحد الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ولزوماً بالصَّمَدَ .
وذلك كما اصطفي الله لملائكته من الذكر ( سبحان الله وبحمده )
** التسبيح : صفات التنزيه التعظيم .
** الحمد : التعظيم التنزيه .
فهكذا وّحد الله نفسه بهذه الأصول من الإثبات والتنزيه وهى مجامع التوحيد العلمي الإعتقادي الذي يُبايِنُ صاحبُه جميعَ فِرق الضَّلال والشرك ؛ ولهذا كانت تعدل ثلث القرآن ؛ كما سبق في الحديث أنها جزءٌ من أجزاءٍ ثلاثةٍ ، فيكون ثلث القرآن خبراً عن الرحمن وصفاته إثباتاً ونفياً وهذا التوحيد الإعتقادي العلمي بمثابةِ إمامٍ وقائدٍ وسائقٍ وحاكمٍ على التوحيد العَمَلي الإرادي القصدي والذي تدل عليه السورة وإذا كانت سورة الإخلاص تدل على التوحيد العلمي نصا فهي تدل على التوحيد العملي لُزوماً .
.
فالله تعالى وَحَدَّ نفسه بهذا التوحيد ، وأَمَرَ المُخَاطَب بتوحيِده بنفس هذا التوحيد الذي وَّحد اللهُ به نفسه ؛ وأتى بلفظةِ ( قُلْ ) تحقيقاً لهذا المعنى ، وأنه مُبَلِّغ محْضٌ قائل لما أُمِر بقوله ، توحيده ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) فهو سبحانه يُخْبِرُ عن نفسه بأنه الوَاحِدُ الأحد " بدائع الفوائد 2/172 زاد المعاد 1/316 : 318 ) " بتصرف " .
قال شيخ الإسلام : ولهذا كان كل ما وصف به الرب نفسه من صفات ، فهي صفات مختصة به يمتنع أن يكون له فيها مشاركٌ أو مماثلٌ ، فإنّ ذاتَه المقدسة لا تُماثِل شيئاً من الذوات ؛ وصفاته مختصة به فلا تماثل شيئاً من الصفات بل هو سبحانه أَحَدٌ صَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ؛ فإسمه الأَحَدْ : دَلَّ على نَفْي المشاركة والمماثلة . واسمه الصَّمَدَ : دل على انه مستحق لجميع صفات الكمال ( ثم قال ) : والمَقْصُوُد هنا أن صفات التنزيه يجمعها هذان المعنيان المذكوران في هذه السورة .
* أحدهما : نفي النقائص عنه ، وذلك من إثبات صفات الكمال فمن ثبت له الكمال التام انتفى النقصان المُضاد له ؛ والكمال من مدلول أسمه الصَّمَدَ ..
* الثاني : انه ليس كمثله شيء في صفات الكمال الثابتة : وهذا من مدلول اسمه الأحد فهذان الاسمان العظيمان ( الأحد والصَّمَدَ ) يتضمنان تنزيهه عن كل نقص وعيب ؛ وتنزيهه في صفات الكمال ألا يكون له مماثل في شيء منها .
واسمه الصَّمَدَ يتضمن إثبات جميع صفات الكمال ؛ فتضمن ذلك : إثبات جميع صفات الكمال ونفي جميع صفات النقص .
فالسورة تَضَمّنَتْ كل ما يجب نفيه عن الله ، وتضمنت أيضاً كل ما يجب إثباته من وجهين : من إسمه الصَّمَدَ ، ومن جهة أن ما نفي عنه من الأصول والفروع والنظراء مستلزم ثبوت صفات الكمال أيضاً ، فإن كل ما يُمدح به الرب من النفي فلابد أن يتضمن ثبوتا ؛ بل وكذلك كل ما يمدح به من شيء من الموجودات من النفي فلابد أن يتضمن ثبوتاً وإلا فالنفي المحض معناه عدم محض ، والعدم المحض ليس شيئاً ،* جعلت الكلام كله مقسما علي ثمانية بنود كما يلي :
أولاً : النقص للمخلوق . ثانياً : الكمال كله للخالق ثالثاً
رابعاً : سؤال غير الله ظلم عظيم وجهل . خامساً : الصَّمَدَ هو أنسب الألفاظ دلالة علي المطلوب ، وتعريف ابن عباس " رضي الله عنه " لمعناه .
سادساً : أقوال السلف واجتماعها في قولين . سابعاً : الإشتقاقات اللغوية ثامناً : دعاء الله باسمه : الصَّمَدَ .
أولاً : معلوم أن المخلوق ومنه الإنسان يتصف بنقائص كثيرة منها :-
1- الحاجة الضرورية إلى ما يدخلُ جوفَه من مَطْعم ومَشْرَبِ وهَواءٍ وضِيّاءٍ وأَشْعةٍ وغير ذلك ، فهو أجوفُ له أحشاء ، ضعيفٌ يتفرق بدنُه ويتجزأ فيدخل فيه أشياء ويخرج منه أشياء مثل النطفة ( التي يكون منها الولد ) والبول والغائط والبصاق والنُخَامةِ والعَرَقِ وغيره ... وفي النهاية يموت ويتحلل إلى أجزاء متناثرة وليس في المخلوقات إلا ما يقبل أن يَتَجّزأ ويتفرق ويَتَقسّم ؛ وينفصل بعضه من بعض ؛ وان كان في الظاهر مُتماسكاً مجتمعة أجزاؤُه ؛ وفي حديث آدم أن إبليس قال عنه : إنه أجوفُ ليس يَصْمُدُ (أنس / مسلم البر والصله) .
2- أصله هَلُوعٌ جَزوُعٌ مَنُوعٌ لو قصده الآخرون لقضاء حوائجهم واكثروا عليه فإنه يَجْزعُ ويَقْلَقُ وتَتَفرّقُ إرادته وتضعفُ قوتهُ عن القيامِ بحوائج الناس ؛ ومهما كان مجتمع الخُلق ثابتاً قوياً حليماً كريماً شجاعاً فإنّ طاقته محدودة بعدها يثقل ويكترث ويتفرق فلا يستطيع عمل شيء ؛ وهو لا يكون إلا مُحتاجاً فقيراً إلى الله ؛ إذْ يشترطُ فيمن يقومُ بحوائجِ الناسِ أن تكون قدرتهُ كاملة فلا يعجزه شيء ؛ وأن تكون قوتهُ كاملةٌ فلا يضعفه شيء ؛ وأن تكون متانته كاملة فلا يُثْقِلهُ شيءٌ ولا يَمَسُّهُ تَعبٌ أو لُغوبٌ ؛ وأن تكون حياتهُ كاملةٌ فلا يغفلُ ولا ينامُ ؛ وأن يكون علمه كاملاً وحكمته كاملة فلا يَضِلُّ ولا يَنْسى ولا يَفْسَدُ ؛ وأن يكون عَدْلهُ كاملاً فلا يظلمُ مثقالَ ذَرةٍ ؛ وأن تكون عِزّتُهُ كاملةٌ فلا يُغْلَبُ بل يكون غالباً على أمره ، لا يعيبه شيء ؛ وهكذا في باقي الصفات حيث يشترط أن يجتمع فيه صفات الكمال كلها بلا نقص ؛ وأن تكون كل صفه منها كاملةٌ بلا نقصٍ .. وأَنّى لِبشرٍ أو لِمخلُوقٍ بهذا !! وإنمّا هو اللهُ الصَّمَدَ وحده سبحانه وتعالى وعز وجل ؛ ومن ثم فهو وحده المَقْصُوُد بحقٍ بحوائجِ من في السماواتِ والأرضِ ؛ وسنزيدُ هذا المعنى توضيحاً وتفصيلاً فيما يلي :
ثانياً: اللهُ سبحانه وتعالي اجتمعت له كل صفات الكمال مثل :
الربوبيةِ والملكيةِ والحياةِ والقيّوميّةِ والعزَّةِ والعلمِ والحكمةِ والرزقِ والغني والجودِ والكرمِ والقدرةِ والمغفرةِ والصفحِ والرحمةِ والبرِ والإحسانِ والحلمِ والصبرِ والقداسةِ والهَيْمَنةِ وهو ذُو الجبروتِ والملكوتِ والكبرياءِ والعظمةِ ، بيدهِ ملكوتِ كلِ شيءٍ وهو يجيرُ ولا يُجَارُ عليه ؛ وهو يَسْمعُ جميعَ الأصواتِ بجميع الَّلهْجاتِ على تَفَنُن الحاجاتِ في جميعِ الأوقاتِ ، وهو السميعُ البصيرُ اللّطيفُ الخبيرُ ، وهو الأولُ فليس قَبْلَهُ شيءٌ ، والآخرُ فليس بَعْدَهُ شيءٌ ؛ والظاهرُ فليس فوقهُ شيءٌ ؛ والباطنُ فليس دونهُ شيءٌ ؛ غناه ذاتيٌّ له ؛ فلا يكونْ إلاّ غنياً ولا يحتاجُ إلى شيءٍ ؛ والكلُ يحتاجُ إليه في كل شيء ؛ فهم فقراءُ إليه وفقرهُم ذاتي لهم ؛ فلا يكونوا إلاّ فُقَراء ؛ يحتاجونَ ضرورةً لربوبيتيهِ ؛ ليربيهم برزقه ونِعَمِه ورسالاته ، وليعينَهم ويصونهم وليحكم بينهم ؛ ... كما يحتاجون ضرورة لإلهيته لتَزْكُوا أنْفُسَهُمْ ؛ تَأْلَهُهُ قُلوبُهم محبةً وخوفاً وشوقاً وإنابةً وتعظيماً وخضوعاً وغير ذلك ؛ وإلا ماتت قُلُوبُهم وصَارًوا كالأنعام بل أضل ... وهو على كل شيء مُقِيتٌ وَكِيلٌ حَفِيظٌ رَقِيبٌ شَهِيدٌ ... وهكذا لا توجد صفة كمال إلا وهى ثابتةٌ له سبحانه ؛ ولا يأتي زمان إلا وصفاته ثابتةً له لا تَتَفَّرقُ ولا تَزُولُ ولا تَنْقُصُ ؛ فإذا أثبتنا مثلا مائة صفهٍ لله فلن يأتي وقت تنقص فيه إلى تسعين مثلاً أو اقل ؛ بل لا تزال مائة ثابتة كما هي .. ومن ثم فإذا احتاجت المخلوقات في أي وقت من الأوقات إلى ما تحتاج إليه من شيء فعند الله خزائنه وإنما بكن فيكون ؛ والله تعالى دائمٌ باقٍ لا يجوز عليه شيء مما يجوز على خلقه من التقسم والتشتت والتجزأ والتفرق .. سبحانه وتعالى .
ثالثاً: كل صفه اتصف الله بها فهي على وجه الكمال ولا تزال بلا نقص مهما أعطى بها خلقه ؛ ولنضرب على ذلك مثالاً بصفة الرحمة :
الله تعالى هو الرحمن الرحيم ولم يزل ولا يزال كذلك ؛ وهو سبحانه وتعالى خلق من الرحمة ما يكفي على ما ينشرها على ما يشاء من خلقه ؛ فجعل هذه الرحمة المخلوقة مائة جزء ؛ وانزل جزء واحداً منها لتتراحم به الخلائق في الحياة الدنيا ؛ حتى إن الدابة لترفع حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه من ذلك الجزء ، أي من ذلك الجزء من الرحمة التي أنزلها الله ؛ فانظر رحمك الله إلى مئات الآلاف من الأجناس والأنواع من الأحياء في البر والبحر؛ ثم بتكرار الأجيال إلى يوم القيامة ؛ فكم يكون عدد الأمهات من البشر وغيرهم من الأحياء ولا يحصيهم أبداً إلا الله ، فكم يكون عظم هذا الجزء من الرحمة ؛ فكيف إذا أضيف إلى كل ذلك كل رحمه بين الآباء والأبناء وبين الرجال والنساء ؛ وبين الكبار والصغار ؛ وبين الرحماء والمساكين ؛ فكيف إذا أضيف إلى ذلك رحمته تعالى بإرسال الرياح ؛ وإنزال الماء من السماء ؛ وإخراج النبات مما يأكل الناس والأنعام ؛ ثم أضف إنجاء المؤمنين وغير ذلك من أنواع الرحمة .. وكلها داخلة في جزء واحد من المائة رحمة ؛ ثم قيل يوم القيامة يرفع ذلك الجزء لينضم إلى التسعة والتسعين ؛ فتصير مائة كلها لأولياء الله يوم القيامة .. فكل هذه الرحمة التي جرت في الدنيا وأخذ منها جميع الخلق من البشر وغيرهم ؛ حتى أئمة الكفر ؛ فإنهم ما مكثوا على كفرهم عشرات السنين إلا برحمة الله لعلهم يتذكرون ويتوبون ... كل هذه الرحمة لم تنقص من أتصاف الله تعالى بالرحمة ولو بمثقال ذرة وقس على ذلك في جميع الصفات من الخلق والرزق والعزة وغيرها ... فلو أن الأولين والآخرين اجتمعوا في صعيد واحد فطلب كل منهم من الله رزقاً بما يريد فأعطاهم الله إياه ؛ ما نقص ذلك من صفه الرزق لله شيئاً ولو بمثقال ذرة فهي صفة كاملة لا تختل ولا تتجزأ ولا تتفرق فلا تنقص أبداً ... ومن ثم فهو المَقْصُوُد بالحوائج ؛ لأنه له صفات الكمال الكاملة المتكاملة .
رابعاً: علمنا أن الله سبحانه وتعالى قد كمل في جميع صفاته وأخص هنا صفة الكرم حتى يتبين أن كل من أنزل حوائجه بالمخلوق دون الخالق فقد سفه نفسه وظلمها ذلك بأن الله تعالى يحب الملحين عليه بالطلب والدعاء والمسألة ؛ ويحب أن يقبل إحسانه وفضله ؛ ويغضب على من لم يسأله ؛ ويشتد غضبه على من سال غيره دونه ويجود بالنوال قبل السؤال ؛ ولا تثقله كثرة المسائل ولا تقلقه ولا تمله ؛ وإنما يكون ذلك في المخلوق كما سبق بيانه ...
خامساً: إذا أردنا لفظاً واحداً يجمع هذه المعاني ويدلُ عليها بقوةٍ فعلينا أن نبحث في هذه المعاني والألفاظ الآتية حتى نعلم أيها اقوي دلالة وأجمع لكل هذه المعاني ( الصَّمَدَ - السَّيِدُ - المَقْصُوُد - المُصْمَتُ - الجَامِعُ - الحَلِيمُ )
ولا ريب أنه اللفظ الذي أثبته لنفسه سبحانه وتعالى في سوره الإخلاص وهو واحد من أعظم الأسماء الحسنى ؛ والذي من أجْلِهِ ثَقُلَتُ السورة حتى عَدَلَتْ ثلث القرآن ؛ كما ستأتي الروايات بذلك ألا وهو : الصَّمَدَ :
وتفسير السلف وعلى رأسهم حَبْرُ الأمة ابن عباس رضى الله عنهما لهذا الاسم يحكى هذه المعاني السابقة ؛ حيث نجد له قولين : أحدهما أصل للآخر كما يلي :
الأول : الصَّمَدَ : الذي قد كمل في سؤدده ؛ والشريف الذي قد كمل في شرفه ، والعظيم الذي قد كمل في عظمته ، والحليم الذي قد كمل في حلمه ؛ والعليم الذي قد كمل في علمه ؛ والحكيم الذي قد كمل في حكمته ؛ وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد . هو الله سبحانه وتعالى هذه صفه لا تنبغي لأحد إلا له ، ليس له كُفُوءٌ ؛ وليس كمثله شيء ... سبحان الله الواحد القهار . وهذا هو المعنى الذي فصلته فيما مضى ، وخلاصته أنه تعالى له صفات الكمال وله الكمال في الصفات ؛ وينبني ويتفرع عليه القول الثاني :
الصَّمَدَ : السَّيِدُ الذي يصمد ( يقصد ) إليه في الحوائج .
سادساً: أقوال السلف في بيان معنى الصَّمَدَ مذكورة بأسانيدها في الجزء السابع عشر من فتاوى ابن تيميه رحمه الله تعالى - لمن أراد التفصيل - وهى كما يقول شيخ الإسلام : أقوال متعددة قد يُظن أنها مختلفة – وليست كذلك – بل كلها صواب والمشهور منها قولان :
أحدهما : " أنه الصَّمَدَ الذي لا جوف له " وهو قول أكثر السلف من الصحابة والتابعين وطائفة من أهل اللغة ، وهو المعروف عن ابن مسعود وابن عباس ( وقد سبق قوله الذي تبين مراده بذلك ) والحسن البصري ومجاهد وعكرمة والضحاك والسدّى وقتادة وسعيد بن جبير وهو الذي قال أيضاً : الكامل في جميع صفاته الذي لا يُبلى ولا يُفنى " ؛ وعن قتادة : الصَّمَدَ :" الباقي بعد خلقه"؛ وعن مجاهد ومعمر :" الدائم "، وعن ابن عطاء : هو "المتعالي عن الكون والفساد "، وعنه أيضاً :" الذي لم يتبين عليه أثر فيما أظهر ويريد قوله ( وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ) وبقاؤه ودوامه من تمام الصَّمَدَية ..
الثاني : أن الصَّمَدَ : هو الذي يُصمَد ( يُقصَد ) إليه في الحوائج وهذا قول طائفة من السلف والخلف وجمهور اللغويين وهو متفرع ومبنى على القول الأول كما سبق بيانه .
قال ابن عباس : الصَّمَدَ الذي تُصمَد إليه الأشياء إذا أنزل بهم كربة أو بلاء ؛ قال الخطابي : أصح الوجوه أنه السَّيِدُ الذي يُصمد إليه في الحوائج لأن الاشتقاق يشهد له . وجمع أبو هريرة بين القولين فقال : المستغنى عن كل أحد المحتاج إليه كل أحد . ؛ وقال أبو بكر بن الانبارى : لا خلاف بين أهل اللغة في أنه السَّيِدُ الذي ليس فوقه أحد الذي يُصمَد إليه الناس في حوائجهم وأمورهم ؛ قال شيخ الإسلام : الاشتقاق يشهد للقولين جميعاً ، قول من قال الذي لا جوف له ، وقول من قال : أنه السَّيِدُ ، وهو على الأول أدل ؛ فإن الأول أصل للثاني ولفظ الصَّمَدَ يُقال على من لا جوف له في اللغة ، قال يحيي بن أبي كثير : الملائكة صمد والآدميون جوف ..
سابعاً: بيان اشتقاق اللفظ وأصل مادته وكذا الألفاظ المتناسبة معه ( الصَّمَدُ – السَّيِدُ – المَقْصُوُد – المُصْمَتُ – الجَامِعُ ) واستعمالها في اللغة في اللسان العربي ؛ وبيان المناسبة بين اللفظ والمعنى . فهذا البند هام جداً في فهم المعاني وتصورها وترسخها في الأذهان .
.
والصمدحروفها تدل علي أن أصل هذه المادة ( صم ) الجمع ؛ والجمع فيه القوة .
3- الصاد والميم والدال :
أصلان أحدهما : ( القصد ) ؛ والآخر : ( الصلابة )
الأول : صَمَدَ يَصْمِدُ ( بكسر الميم وضمها) صَمْداً : قصد ؛ ويقال قصدته وقصدت له ؛ وقصدت إليه ؛ وكذلك : صمدته ؛ وصمدت له ؛ وصمدت إليه وهو مصمود ؛ ومصمود له ؛ ومصمود إليه .
* بيت مصمود ومُصْمَّدَّا : إذا قصده الناس في حوائجهم .
الصَّمَدَ والمُصْمَّدُ : وهو السَّيِدُ ( رئيس القبيلة أو القوم ) الذي يَصمُد إليه قومه لقضاء حوائجهم .
الثاني : الصلابة : حيث اجتمع الشيء بعضه إلى بعض وتضّام بشده ولم يكن فيه خلو ؛ وازداد تماسكه وقوته حتى صار صُلْباً ؛ وعبر عن هذا المعنى بتثليث الصاد والميم والدال ؛ والدال حرف قوى ؛ وتظهر قوته عند النطق به ومن أمثلة ذلك من اللسان والقاموس :-
أرض صَمْدة : مرتفعه غليظة متماسكة قوية ( وحولها رمال غير متماسكة ) ؛ وكذلك صخرة راسيةُ في الأرض مستوية أو مرتفعه .
ناقة صَمْدة : حُمِلَ عليها فلم تلقح ؛ إذا لم يفرق الولد بطنها ..
.
يصمد المال : يجمعه .
رجل صمد : لا يجوع ولا يعطش في الحرب ؛ وهذه قمة الصلابة في الإنسان ( والخلاصة ) :
وإذا كان أهل اللغة قد استعملوا أسم الصَّمَدَ في حق المخلوقين كما تقدم لذلك لم يقل الله تعالى في سوره الإخلاص : الله صمد ؛ بل قال : ( الله الصَّمَدَ ) لأنه المستحق لأن يكون هو الصَّمَدَ دون ما سواه ؛ فإنه المستوجب لغايته على الكمال . وال التعريفية لبيان علميته تعالى على الصَّمَدَية فلا يشاركه فيها غيره .
.
ثامنا** الدعاء بالصَّمَدَ **
علمنا أن هذا الاسم فيه إثبات جميع صفات الكمال وصفات التنزيه ومن ثمَّ فدعاء الله به يتضمن الدعاء بالأسماء الحسنى كلها ؛ وذلك يستلزم إستجماع قوى القلب العلمية والعملية والتوجه بها بصدق إلى الصَّمَدَ المَقْصُوُد لذاته ؛ والصدق أصل مادته القوة ؛ كما تقدم ؛ وهو هنا بذل الجهد واستفراغ الوسع ؛ حتى يؤخذ الدين بقوة في كل أجزائه وفى جميع الأحوال ؛ بالاستعانة بالله قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ) وقال (أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوآ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) وقال ( أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) ؛ ويظهر ذلك في دعاء المسألة ودعاء الثناء ودعاء العبادة .
* دعاء المسألة :
(1) توجيه القصد كله بجميع الحوائج إلى الصَّمَدَ بالإقبال عليه دون ما سواه مع الأخذ بالأسباب المأمور بها شرعاً واليقين بأنها - مهما كَبُرَتْ وتَزَيّنَتْ - مملوكة لله مربوبة مدبرة له فهو سبحانه ربها ومليكها وخالقها ومقدرها ؛ وهو مقيتها الذي قاتها لتوجد ؛ ثم قاتها لتستمر في الوجود ، ولو حبس قوته عنها هلكت وأصبحت عدماً ؛ فليحذر المؤمن أن تستغرقه الأسباب فينسي الصَّمَدَ .
(2) التزام آداب الدعاء كما في قوله تعالى (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ) الأعراف / 55 .
إذ الدعاء بغير تضرع ، دعاء بلا روح ، فهو دعاء ميت وفيه اعتداء . والتضرع : هو التذلل والتمسكن والانكسار ؛ والخفية : هي مسألة مناجاة القريب للقريب ، لا مسألة نداء البعيد للبعيد ، فكلما استحضر القلب : قرب الله منه ، وأنه أقرب إليه من كل قريب ، وتصور ذلك أخفي دعاءه ما أمكنه ولم يتأت له رفع الصوت به ، بل يراه غير مستحسن كما أن من خاطب جليساً له يسمع خَفِيَّ كلامه ، فبالغ في رفع الصوتِ ، استهجن ذلك منه ، ولله المثل الأعلى سبحانه .
قال تعالى (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ 00000 الايه ) البقرة .
وفى الحديث عند البخاري 6/ 157 في الجهاد والسير ؛ لما رفع الصحابة أصواتهم بالتكبير وهم معه في السفر فَقَالَ :" ارْبعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ مَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ " رواه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد وأبو داود وابن ماجة ، واللفظ لأحمد .
وفى قوله تعالى : ( إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) عقب قوله ( ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ) ؛ دليل على أن من لم يدْعه تضرعاً وخفيه فهم من المعتدين الذين لا يحبهم .
ومن الآداب أيضاً الخوف والطمع كما قال تعالى ( وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ) ؛ أي إنما ينال الرحمة من دعاه خوفاً وطمعاً فالتضرع والخفية والخوف والطمع ينبغي أن تكون حال الداعين عند دعائهم وإلا دخلوا في الاعتداء ، كدعاء المُدلّ المستغْنى بما عنده المدل على ربه . والله لا يحب ذلك ، ومن لم يحبه الله فأي خير يناله ؟! ؛ والله لا يستجيب الدعاء من قلب غافل لاهٍ .
(3) اجتناب الاعتداء في الدعاء : ومن ذلك ما تقدم من ترك آداب التضرع والخفية والخوف والطمع ومن أعظمه ، إنما هو سؤال غير الله من دون الله أو مع الله ، ومنه الذي يسأل ما لا يليق به من منازل الأنبياء وغير ذلك ، ومنه الذي يسأل ما لا يجوز له سؤاله من الإعانة على المحرمات ، والذي يسأل ما لا يفعله الله ( كطلب التخليد إلى يوم القيامة ) أو الإعفاء من لوازم البشرية ؛ أو أن يجعله من المعصومين ؛ ومنه كل سؤال يناقض حكمة الله أو يتضمن مناقضة شرعه وأمره ؛ أو يتضمن خلاف ما اخبر به ، فهو اعتداء لا يحبه الله ولا يحب سائله ؛ ومنه الدعاء بالإثم وقطيعه الرحم .
ولقد علق ابن القيم تعليقاً نفيساً على هاتين الآيتين من سوره الأعراف (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) بدائع الفوائد 3/22 : 35 – " وإنما ذكرت قليلا منه بمعناه " - .
(4) الحرص على أن يكون المطعم من حلال ، وكذلك المشرب ، والملبس وما شابهه واجتناب موانع الإجابة ، والحرص على أن تكون المسألة عن الدين والآخرة أكثر بكثير من المسألة عن الدنيا ومتاعها ؛ وابتغاء الوسيلة ( من صدقه وصلاة وما شابهه ) بين يدي السؤال والطلب ، وأقوي وأجمل وأجمع صيغ الدعاء هي أدعية الرسول صلى الله عليه وسلم مع بذل الجهد في فهم معانيها وإلاّ كانت علي اللسان دون القلب وقد علمنا خطر ذلك .
وأعلم أيها المسلم : أن الصَّمَدَ عز وجل يحب الإلحاح في الدعاء ، ويغضب على من لا يسأله ، ولا تستطل الكلام في دعاء المسألة هذا فإنه دعاء بالصَّمَدَ ؛ وهو يعم دعاء المسألة بجميع الأسماء الحسنى .
وفي الحديث أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ :" اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ الْأَحَدُ الصَّمَدَ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ " رواه الترمذي وابن ماجة وأبو داود وأحمد وابن حبان وصححه الحاكم ، وصححه الألباني في
( صحيح سنن الترمذي ) .
* دعاء الثناء :-
كل ثناء على الله تعالى بما هو أهله من صفات الكمال فهو داخل في الثناء عليه باسمه الصَّمَدَ ، وتلاوة سوره الإخلاص بالفهم الذي تبين هو ثناء على الله باسمه الصَّمَدَ وبتوحيده العلمي الإعتقادي .
* دعاء العباده :-
الصدق واخذ الدين بقوه كما تقدم .
التخلق بالأخلاق الحسنه : وهى التخلق بمقتضى صفات الكمال لله التي جاء الأمر بها في الشريعة والنهي عن أضدادها .
( فان الله شكور يحب الشاكرين ،
رحيمٌ يحب الرحماء ،
عفوٌ يحب العافين ،
جميلٌ يحب الجمال ،
طيب يحب الطيبين . ) ............ وهكذا .
- ومن ذلك قضاء حوائج المسلمين بحق وتفريج كربهم -
* توجيه الوجه ( القصد ) وإسلام الوجه لله ، وإقامة الوجه للدين .اللهم أني أسألك يا الله ياصمد أن تفتح علينا بالمدد ولاتكلنا لأحد يامن عليه المعتمد يا الله ياصمد ..... شكرا وبارك الله فيكم