بسم الله الرحمن الرحيم
السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته
السؤال:
عندي إشكال في قول الله تعالى: إنه كان في أهله مسرورا. أقصد: كلنا نعلم أن المعصية، والكفر مجلبة للغم، والهم، والحزن، والخوف للقلب. والله يقول: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا. ونعلم أن السعادة العظيمة لأهل الإيمان في الدنيا، قبل الآخرة. فكيف نجمع بين ذلك؟
الإجابـــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه، أما بعد:
فعلى القول بأن المقصود بالمعيشة الضنك أنها في الدنيا، كما قاله بعض المفسرين، فإنه لا تعارض بين المعيشة الضنك المتوعد بها الكافر، وبين ما يجده من السرور؛ لأن الكافر وإن كانت معيشته ضنكا، فإنها تتخللها لحظات فرح، وسرور يسير زائل، فهو يفرح، ويسر بركوبه المعاصي، والشهوات.
قال البغوي في تفسيره: {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا} يعني في الدنيا، باتباع هواه، وركوب شهوته. اهــ.
وقد دل القرآن على أنهم يفرحون بالمعاصي، كما في قوله تعالى عن أهل النار:ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ {غافر:75}.
قال الشوكاني: أي بما كنتم تظهرون في الدنيا من الفرح بمعاصي الله، والسرور بمخالفة رسله، وكتبه. اهــ.
والمشاهد أن الكفار يسعون للفرار من ضيق صدورهم، ووحشة قلوبهم، ويبحثون عن السرور في المعاصي، والمنكرات.
كما أن الكافر يفرح أيضا، ويسر بنعم الله عليه، وهذا فرح وسرور مقصود لاستدراجهم، فقد أخبرنا الله تعالى أنه يستدرج أهل معصيته بما يفرحهم، ويسرون به حتى يأخذهم بغتة؛ كما قال تعالى: حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ {الأنعام:44} .
والكافر أيضا يفرح ويسر بنكوله عن الطاعات التي فيها جهد ومشقة كالجهاد، كحال المنافقين الذي تخلفوا عن رسول الله في غزوة تبوك: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ {التوبة:81}. وكل هذا الفرح والسرور زائل، ويسير مقابل الهم، والغم الذي يغلب عليه، والذي ينتظره.
وذهب بعض المفسرين إلى أن المقصود بالمعيشة الضنك، معيشة حياة البرزخ في القبر وليست معيشة الدنيا، وحينئذ لا يرد الإشكال الذي ذكرته أخي السائل.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وَقَوله تَعَالَى: فَإِن لَهُ معيشة ضنكا. فَسرهَا غير وَاحِد من السّلف بِعَذَاب الْقَبْر، وَجعلُوا هَذِه الآية أحد الأدلة الدَّالَّة على عَذَاب الْقَبْر؛ وَلِهَذَا قَالَ: ونحشره يَوْم الْقِيَامَة أعمى قَالَ رب لم حشرتني أعمى وَقد كنت بَصيرًا قَالَ كَذَلِك أتتك آيَاتنَا فنسيتها وَكَذَلِكَ الْيَوْم تنسى.
أَي تتْرك فِي الْعَذَاب، كما تركت الْعَمَل بِآيَاتِنَا، فَذكر عَذَاب البرزخ، وَعَذَاب دَار البوار، ونظيره قَوْله تَعَالَى فِي حق آل فِرْعَوْن: النَّار يعرضون عَلَيْهَا غدوا وعشيا. فَهَذَا فِي البرزخ، وَيَوْم تقوم السَّاعَة ادخُلُوا آل فِرْعَوْن أشد الْعَذَاب فَهَذَا فِي الْقِيَامَة الْكُبْرَى ... اهــ.
ويؤيد هذا التفسير ما رواه ابن حبان في صحيحه، ورواه غيره، وحسنه الألباني من حديثأبي هريرة مرفوعا في صفة عذاب الميت في قبره، وفي آخره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فتلك المعيشة الضنكة التي قال الله: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى {طه:124}.
وقد جاءت أحاديث مرفوعة، وآثار موقوفة عن بعض الصحابة في تفسير المعيشة الضنك بعذاب القبر. ذكرها الشوكاني في فتح القدير. وقال عقب ذكرها: وَمَجْمُوعُ ما ذكرنا هنا، يرجّح تَفْسِيرَ الْمَعِيشَةِ الضَّنْكَى بِعَذَابِ الْقَبْرِ