تفسير سورة القلم
تفسير الآيات(1- 4)
صورة
(ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4))
صورة
شرح الكلمات:
{ن~}: هو أحد الحروف المقطعة يكتب هكذا ن~ ويُقرأ نُون.
{والقلم وما يسطرون}: أي والقلم الذي كتب به الذكر (القدر) والذي يخطون ويكتبون.
{ما أنت بنعمة ربك}: أي لست بما أنعم الله عليك من النبوة وما وهبك من الكمال.
{بمجنون}: أي بذع جنون كما يزعم المشركون.
{غير ممنون}: أي غير مقطوع بل هو دائم أبدا.
صورة
معنى الآيات:
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ
يقسم تعالى بالقلم، وهو اسم جنس شامل للأقلام، التي تكتب بها أنواع العلوم، ويسطر بها المنثور والمنظوم.
صورة
مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ
وذلك أن القلم وما يسطرون به من أنواع الكلام، من آيات الله العظيمة، التي تستحق أن يقسم الله بها، على براءة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، مما نسبه إليه أعداؤه من الجنون فنفى عنه الجنون بنعمة ربه عليه وإحسانه، حيث من عليه بالعقل الكامل، والرأي الجزل، والكلام الفصل، الذي هو أحسن ما جرت به الأقلام، وسطره الأنام، وهذا هو السعادة في الدنيا، ثم ذكر سعادته في الآخرة، فقال:
{ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا } .
صورة
وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ
أي: لأجرا عظيمًا، كما يفيده التنكير، { غير ممنون } أي: غير مقطوع، بل هو دائم مستمر، وذلك لما أسلفه النبي صلى الله عليه وسلم من الأعمال الصالحة، والأخلاق الكاملة.
صورة
وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ
{ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } أي: عاليًا به، مستعليًا بخلقك الذي من الله عليك به، وحاصل خلقه العظيم، ما فسرته به أم المؤمنين، [عائشة -رضي الله عنها-] لمن سألها عنه، فقالت: "كان خلقه القرآن"، وذلك نحو قوله تعالى له: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ } [الآية]، { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيُصُ عَلَيْكُم بِالمْؤُمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } وما أشبه ذلك من الآيات الدالات على اتصافه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، [والآيات] الحاثات على الخلق العظيم فكان له منها أكملها وأجلها، وهو في كل خصلة منها، في الذروة العليا، فكان صلى الله عليه وسلم سهلًا لينا، قريبًا من الناس، مجيبًا لدعوة من دعاه، قاضيًا لحاجة من استقضاه، جابرًا لقلب من سأله، لا يحرمه، ولا يرده خائبًا، وإذا أراد أصحابه منه أمرًا وافقهم عليه، وتابعهم فيه إذا لم يكن فيه محذور، وإن عزم على أمر لم يستبد به دونهم، بل يشاورهم ويؤامرهم، وكان يقبل من محسنهم، ويعفو عن مسيئهم، ولم يكن يعاشر جليسًا له إلا أتم عشرته وأحسنها، فكان لا يعبس في وجهه، ولا يغلظ عليه في مقاله، ولا يطوي عنه بشره، ولا يمسك عليه فلتات لسانه، ولا يؤاخذه بما يصدر منه من جفوة، بل يحسن إلي عشيره غاية الإحسان، ويحتمله غاية الاحتمال صلى الله عليه وسلم.
صورة
فى ظلال الآيات:
صورة
• يقسم الله - سبحانه - بنون , وبالقلم , وبالكتابة . والعلاقة واضحة بين الحرف "نون" . بوصفه أحد حروف الأبجدية وبين القلم , والكتابة . . فأما القسم بها فهو تعظيم لقيمتها , وتوجيه إليها , في وسط الأمة التي لم تكن تتجه إلى التعلم عن هذا الطريق , وكانت الكتابة فيها متخلفة ونادرة , في الوقت الذي كان دورها المقدر لها فيعلم الله يتطلب نمو هذه المقدرة فيها , وانتشارها بينها , لتقوم بنقل هذه العقيدة وما يقوم عليها من مناهج الحياة إلى أرجاء الأرض . ثم لتنهض بقيادة البشرية قيادة رشيدة . وما من شك أن الكتابة عنصر أساسي في النهوض بهذه المهمة الكبرى .
• ومما يؤكد هذا المفهوم أن يبدأ الوحي بقوله تعالى اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم). . وأن يكون هذا الخطاب موجها للنبي الأمي - الذي قدر الله أن يكون أميا لحكمة معينة - ولكنه بدأ الوحي إليها منوها بالقراءة والتعليم بالقلم . ثم أكد هذه اللفتة هنا بالقسم بنون , والقلم وما يسطرون . وكان هذا حلقة من المنهج الإلهي لتربية هذه الأمة وإعدادها للقيام بالدور الكوني الضخم الذي قدره لها في علمه المكنون .
•يقسم الله - سبحانه - بنون والقلم وما يسطرون , منوها بقيمة الكتابة معظما لشأنها كما أسلفنا لينفي عن رسوله صلى الله عليه وسلم تلك الفرية التي رماه بها المشركون , مستبعدا لها , ونعمته على رسوله ترفضها .
صورة
(ما أنت بنعمة ربك بمجنون). .
• فيثبت في هذه الآية القصيرة وينفي . . يثبت نعمة الله على نبيه , في تعبير يوحي بالقربى والمودة:حين يضيفه سبحانه إلى ذاته ربك). وينفي تلك الصفة المفتراة التي لا تجتمع مع نعمة الله , على عبد نسبه إليه وقربه واصطفاه . .
•وإن العجب ليأخذ كل دارس لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في قومه , من قولتهم هذه عنه , وهم الذين علموا منه رجاحة العقل حتى حكموه بينهم في رفع الحجر الأسود قبل النبوة بأعوام كثيرة . وهم الذين لقبوه بالأمين , وظلوا يستودعونه أماناتهم حتى يوم هجرته , بعد عدائهم العنيف له , فقد ثبت أن عليا رضى الله عنه تخلف عن رسول الله أياما في مكة , ليرد إليهم ودائعهم التي كانت عنده ; حتى وهم يحادونه ويعادونه ذلك العداء العنيف . وهم الذين لم يعرفوا عليه كذبة واحدة قبل البعثة . فلما سأل هرقل أبا سفيان عنه:هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل نبوته ? قال أبو سفيان - وهو عدوه قبل إسلامه - لا , فقال هرقل:ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله !.
•إن الإنسان ليأخذه العجب أن يبلغ الغيظ بالنَّاس إلى الحد الذي يدفع مشركي قريش إلى أن يقولوا هذه القولة وغيرها عن هذا الإنسان الرفيع الكريم , المشهور بينهم برجاحة العقل وبالخلق القويم . ولكن الحقد يعمي ويصم , والغرض يقذف بالفرية دون تحرج ! وقائلها يعرف قبل كل أحد , أنه كذاب أثيم !
• (ما أنت بنعمة ربك بمجنون). . هكذا في عطف وفي إيناس وفي تكريم , ردا على ذلك الحقد الكافر , وهذا الافتراء الذميم .
صورة
(وإن لك لأجرا غير ممنون). .
وإن لك لأجرا دائما موصولا , لا ينقطع ولا ينتهي , أجرا عند ربك الذي أنعم عليك بالنبوة ومقامها الكريم . . وهو إيناس كذلك وتسرية وتعويض فائض غامر عن كل حرمان وعن كل جفوة وعن كل بهتان يرميه به المشركون . وماذا فقد من يقول له ربه وإن لك لأجرا غير ممنون)? في عطف وفي مودة وفي تكريم ?
ثم تجيء الشهادة الكبرى والتكريم العظيم:
صورة
(وإنك لعلى خلق عظيم). .
وتتجاوب أرجاء الوجود بهذا الثناء الفريد على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم; ويثبت هذا الثناء العلوي في صميم الوجود ! ويعجز كل قلم , ويعجز كل تصور , عن وصف قيمة هذه الكلمة العظيمة من رب الوجود , وهي شهادة من الله , في ميزان الله , لعبد الله , يقول له فيها (وإنك لعلى خلق عظيم). ومدلول الخلق العظيم هو ما هو عند الله مما لا يبلغ إلى إدراك مداه أحد من العالمين !
•ولقد رويت عن عظمة خلقه في السيرة , وعلى لسان أصحابه روايات منوعة كثيرة . وكان واقع سيرته أعظم شهادة من كل ما روي عنه . ولكن هذه الكلمة أعظم بدلالتها من كل شيء آخر . أعظم بصدورها عن العلي الكبير . وأعظم بتلقي محمد لها وهو يعلم من هو العلي الكبير , وبقائه بعدها ثابتا راسخا مطمئنا . لا يتكبر على العباد , ولا ينتفخ , ولا يتعاظم , وهو الذى سمع ما سمع من العلى الكبير !
•والله أعلم حيث يجعل رسالته .إن هذه الرسالة من الكمال والجمال , والعظمة والشمول , والصدق والحق , بحيث لا يحملها إلا الرجل الذي يثني عليه الله هذا الثناء . فتطيق شخصيته كذلك تلقي هذا الثناء . في تماسك وفي توازن , وفي طمأنينة . طمأنينة القلب الكبير الذي يسع حقيقة تلك الرسالة وحقيقة هذا الثناء العظيم . ثم يتلقى - بعد ذلك - عتاب ربه له ومؤاخذته إياه على بعض تصرفاته , بذات التماسك وذات التوازن وذات الطمأنينة . ويعلن هذه كما يعلن تلك , لا يكتم من هذه شيئا ولا تلك . . وهو هو في كلتا الحالتين النبي الكريم . والعبد الطائع . والمبلغ الأمين .
•والناظر في هذه العقيدة , كالناظر في سيرة رسولها , يجد العنصر الأخلاقي بارزا أصيلا فيها , تقوم عليه أصولها التشريعية وأصولها التهذيبية على السواء . . الدعوة الكبرى في هذه العقيدة إلى الطهارة والنظافة والأمانة والصدق والعدل والرحمة والبر وحفظ العهد , ومطابقة القول للفعل , ومطابقتهما معا للنية والضمير ; والنهي عن الجور والظلم والخداع والغش وأكل أموال الناس بالباطل , والاعتداء على الحرمات والأعراض , وإشاعة الفاحشة بأية صورة من الصور . . والتشريعات في هذه العقيدة لحماية هذه الأسس وصيانة العنصر الأخلاقي في الشعور والسلوك , وفي أعماق الضمير وفي واقع المجتمع . وفي العلاقات الفردية والجماعية والدولية على السواء .
• ثم إنها ليست فضائل مفردة:صدق . وأمانة . وعدل . ورحمة . وبر . . . . إنما هي منهج متكامل , تتعاون فيه التربية التهذيبية مع الشرائع التنظيمية ; وتقوم عليه فكرة الحياة كلها واتجاهاتها جميعا , وتنتهي في خاتمة المطاف إلى الله . لا إلى أي اعتبار آخر من اعتبارات هذه الحياة !
•وقد تمثلت هذه الأخلاقيه الإسلامية بكمالها وجمالها وتوازنها واستقامتها واطرادها وثباتها في محمد [ ص ] وتمثلت في ثناء الله العظيم , وقوله وإنك لعلى خلق عظيم)..
صورة
من هداية الآيات:
1- تقرير مسألة أن الله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه.
2- بيان فضل القلم الذي يكتب به الهدى والخير.
3- تقرير عقيدة القضاء والقدر إذ كان ذلك بالقلم الذي أول ما خلق الله.
4- بيان كمال الرسول صلى الله عليه وسلم في أدبه وأخلاقه وجعله قدوة في ذلك.
صورة
جزاكم الله خيراً على طيب المتابعة .. دمتم طيبين .فى رعاية الرحمن
صورة
المراجع:
•تفسير القرآن العظيم ابن كثير
• تيسير الكريم الرحمن فى تفسير كلام المنان