بسم الله الرحمان الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه أجمعين
الناظر في هذه الآية يلاحظ كون مطلب سيّدنا إبراهيم عليه السلام وسؤاله لم يكن مطلبا عبثيا أملاه عليه خاطر النفس في فضولها أو خاطر الشيطان في عناده وتشكيكه بل أملاه عليه وارد صريح كمال الإيمان للدخول إلى حضرة الإيقان لهذا توجّه الله تعالى إليه بالسؤال عن مغزى طلبه وهو العليم سبحانه به فقال (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن )
سؤال ليس عن إيمان إبراهيم عليه السلام بالله تعالى وبصفاته وإنّما عن كفايته بالإيمان بالقدرة غيبا عن طلب مكاشفة الإيقان فهما فكأنّه يقول له ( أوَ لا يكفيك يا إبراهيم ما حصل لك من الإيمان بقدرتي عن سؤال مكاشفة الإيقان لفهم حكمتي ) فأجاب سيّدنا إبراهيم الفتى النجيب عليه السلام جوابا كافيا بادية عليه علائم النجاح والفهم عن الله تعالى والفلاح فقال (قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) أي بلى يا ربّ أنا مؤمن بقدرتك ولكن أبتغي إطمئنان قلبي برؤية كيفية سريان قدرتك في أنوار حكمتك
فكان عليه السلام مطلبه المكاشفة بأنوار الإيقان بعد حصول كمال عقل الإيمان حتى لا يكون بعد العين أين إذ حكاية اليقينيات من غير كشف يدخلك برّ التقليد بينما يدخلك اليقين بالكشف إلى بحر الفهم والتوحيد
فشتّان بين من كان مقلّدا في عالم اليقين وبين من كان مكاشفا به مترجما عنه فأهل التقليد قد يزلّون ويضلون في الحكم على عالم اليقين لهذا كان المنهج الإبراهيمي والسلوك الإبراهيمي هو الاساس على صاحبه الصلاة والسلام كما قال تعالى (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )
لكون تلك الملّة هي السلوك الأكمل الأشمل الفطري الإلهي الرباني فما ورث عن نبيّ من الأنبياء ولا رسول من الرسل من قبل بعثته عليه الصلاة والسلام أكمل ولا أبين من الهدي الإبراهيمي على صاحبه الصلاة والسلام كما قال تعالى مخاطبا سيّد الوجود عليه الصلاة والسلام ( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم دِينًا قِيَمًا مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ) وقال تعالى (ثُمَّ أَوْحَيْنَا أَنْ اِتَّبَعَ مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ )
فاختار الله تعالى له الملّة الإبراهيمية صلى الله عليه وسلّم لكون عناية السلوك الإبراهيمي بتجريد التوحيد وهذا الذي عليه اليوم طريقة من إجتمعنا بهم من السادة الشاذلية العليّة رضي الله تعالى عن أصحابها ونعني بالشاذلية الذين سلموا من كلّ محذور من الأغيار وفنوا صادقين في توحيد الواحد القهار فلم يلتفتوا إلى شيء سواه ولا رأوا نورا غير سناه لكون الملّة الإبراهيمية هي ترك الشرك في العوالم كلّها والفناء في الله تعالى والبقاء به على وصف ونعت أهل الكمال
لهذا تعدّد وصف وتصوير مراحل السير والسلوك الإبراهيمي في القرآن من عالم الملك إلى عالم الملكوت إلى عالم الجبروت .لهذا سمّى صلى الله عليه وسلّم إبنه بعد الهجرة النبوية من مارية على إسم سيّدنا إبراهيم عليه السلام لكمال أدبه وذوقه صلى الله عليه وسلّم بينما سمّى الحسن والحسين من أبناء إبنته فاطمة على غير أسماء الأنبياء لأنّه صلى الله عليه وسلّم خاتم النبيئين صلى الله عليه وسلّم فلو كان هناك نبيّا من بعده لكان من صلبه الشريف صلى الله عليه وسلّم لهذا لا يعيش له الذكور فلو عاشوا لكانوا أنبياء ( فافهم )
فتمعّن معي هنا في ذكر خصائص السلوك الإبراهيمي وسنذكر الفروق فيما بينه وبين السلوك العيسوي والسلوك الآدمي من خلال هذه القصّة التي هي قصّة سؤال رؤية كيفية إحياء الموتى
فلمّا تقدّم السؤال حيث نوال الخصال اليقينية والأنوار الصفاتية لم يتنازل سيّدنا إبراهيم عليه السلام عن مطلبه وسؤاله لما قيل له (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ) بل أجاب قائلا سائرا باحثا عن معرفة الله تعالى وتوحيده قاصدا باب حضرته منيخا مطاياه في طريق وصلته (قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) أي ليطمئنّ قلبي بما أراه من أنوار حكمتك في الإحياء والإماتة إذ بذلك يتحقّق سيري إليك بعد أن دللتني عليك إذ ذلك ديدني فلا أريد ولا أبتغي أن أشهده من غيرك
فهو في كلّ ذلك في الحقيقة ليس له من المطالب غير مطلب واحد وهو رؤية وجه ربّه فكان يتدرّج كما قال قائل القوم ( أمرّ على الأبواب من غير حاجة --- لعلي أراهم أو أرى من يراهم ) فهو في كلّ ذلك السير والسلوك ليس له من الغايات غير غاية الوصول والدخول في حضر القبول فمن سأل رؤية سرّ القدرة في نور الحكمة يوشك أن يطلب رؤية القادر الحكيم فافهم أيّها المريد الحليم ( إِنَّ إِبْرَاهِيم لَحَلِيم أَوَّاه مُنِيب ) هذا مدخل ثمّ نكتب التفصيل إن شاء الله تعالى
كان السؤال في عالمه من حيث المكاشفة بمعاني أمر خاص وهو كيفية إحياء الموتى وليس ( إحياء الموتى ) أي معاينة سرّ القدرة برؤيته في عين الحكمة وهو المكاشفة بسرّ الصفات لتعلّق الأمر بالإحياء وليس بالخلق أي لم يتوجّه سؤاله إلى رؤية سرّ المادة وبدايتها أو إتحادها أو سرّ القدرة في متعلقاتها من حيث الإيجاد والإمداد وإنّما جاء السؤال لطلب رؤية كيفية مخصوصة في أمر مخصوص عليه مدار الإحياء والإماتة
لكون بداية الخلق أنّ الله تعالى خلق بشرا من الطين فلمّا سواه نفخ فيه من روحه فكانت الصورة متقدمة على نفخ الروح ثمّ استوت تلك الصورة بعد نفخ الروح فيها بشرا سويّا من لحم ودم وهو سيّدنا آدم عليه السلام فهذا في أصل الخلقة بينما في الإماتة يقع قبض الروح فمتى قبض الله تعالى أي روح من ذوات الأرواح إستحالت أبدان تلك الأرواح إلى تراب وفناء إلا ما ورد من كونه يبقى كعجب الذنب حيث أنّه لا يفنى بل يبقيه الله تعالى كي يقع عن طريقه الإحياء من جديد
فتنعكس الصورة حيث يصبح جسم الإنسان كاملا من دم ولحم ثمّ تردّ الروح فيه لأنّه هناك فرق بين نفخ الروح وبين ردّ الروح فالأوّل لا بدّ منه لكلّ مخلوق كائن حيّ فتنفخ الروح فيه لكن بعد الموت ومجيء وقت الإحياء يقع ردّ الروح في الجسم وليس نفخها فيه لهذا ورد في الحديث ( ما سلم عليّ احد إلاّ ردّ الله عليّ روحي فرددت عليه السلام ) أو كما قاله صلى الله عليه وسلم
إلاّ أنّ سيدنا إبراهيم عليه السلام ما سأل عن إحياء الموتى لمجرّد الإحياء كالذي قال الله تعالى فيه :
( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا أَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )
فعزير هنا كان سأل عن سرّ القدرة وما طلب المكاشفة بسرّ الحكمة لهذا قال في الأخير ( قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )
بينما سيّدنا إبراهيم عليه السلام قال تعالى له في آخر إستجابة سؤاله وطلبه ( وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) فانظر قوله (عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) كيف أشار إلى كون مطلب سيدنا إبراهيم كان بحثا عن سرّ الحكمة ونورها وليس عن سرّ القدرة التي هو مؤمن بها لهذا ما سأل ولا طلب مثلا بقوله ( أرني إحياء الموتى ) بل سأل عن كيفية الإحياء وليس عن مجرّد الإحياء فافهم لكون الإحياء مفهوم لدى قلبه معقول في فكره وإنّما سأل عن كيفيته أي المكاشفة اليقينية بذلك وهو رؤية سريان سرّ القدرة في ماهيات الحكمة
وهذا قانون ساري في الكون من حيث الإحياء والإماتة في كل شيء ظاهرا وباطنا لذا قال تعالى في سير سيّدنا إبراهيم عليه السلام في مقامات اليقين :
(وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ )
أي لأنّه يريدنا دون سوانا فلا بدّ أن نعرّفه شؤون مملكتنا من بحر أسمائنا وصفاتنا فكان مؤمنا ثمّ كان موقنا ثمّ أصبح محسنا كما قال تعالى (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) غاية درجات الكمال متى علمت أنّه الذي ( هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ )
فإذا علمت هذا تعلم سموّ ورقيّ سؤال سيّدنا إبراهيم عليه السلام ومطالبه من باب ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) حيث كان باحثا عن توحيد صفاته تعالى ثمّ بعد توحيد أسمائه تعالى منيبا إلى توحيد ذاته تعالى كي تعلم ماهيات المشرب الإبراهيمي المقول فيه (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )
قال تعالى (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى )
أرني كيف تحيي الموتى من أمثالي بفهم سرّ الحكمة وكيفيتها بعدما أحييتني بالإيمان بقدرتك ومنجزاتها (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ) فتكفيك تلك الحياة التي أحييتك بها بإيماني وأدخلتك بها بحر كرامتي وإحساني
(قَالَ بَلَى ) يتلوه شاهد منّي بما أجده من حياة في ظلّ أسمائك فسؤالي منك الآن أن تحييني في جوار نور صفاتك كي تدخلني بعدها بحر الحياة بنور ذاتك فتلك غايتي فلو لا مراتب ما رتّبته من سلوك وسير لما رضيت بشيء دون التوحيد بلا غير ولكن أوقفتني عند حدود الأدب حيث سلامة العلم وإستقامته وصحّة الفهم وكرامته فلا يطغيني جذب أو يزيغ بي سلوك
( الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ )